جلد الذات .. حساب أم عقاب؟

جلد الذات .. حساب أم عقاب؟

جلد الذات ربما يكون مصطلحا لا يعرفه الكثيرون و لكنهم قد يكونوا يمارسونه يوميا دون أن يشعروا.



جلد الذات بلفظه المجرد فقط ” يحمل معنى الألم”.

قد ينتابك شعور غريب مثير للإشمئزاز بمجرد سماع ذلك اللفظ و لو لأول مرة.

لكن أؤكد لك أنك مارسته يوما ما دون أن تدري أو تشعر.

إلقاء اللوم على النفس أمر يحدث يوميا، خاصة لهؤلاء محبي التفكير الزائد المعروف ب ” overthinking”.

قد يكون الأمر عشوائيا لدى البعض ،من حين لآخر يؤنبه ضميره لفعل قد فعله و من وجهة نظره أنه كان فعلا خاطئا.

لكن الأخطر هو ممارسته بشيء من المنهجية و الاستمرارية.

أن تلوم نفسك على كل كبيرة صغيرة و كبيرة تحدث، حتى قد يصل الأمر لدى البعض للوم نفسه على أمر تخص غيره من المحيطين به.

بل و قد يحدث ما هو ابعد من ذلك، أن يلوم الشخص نفسه على أمور عامة بالمجتمع ككل و ليس فقط بالمحيط الذي يعيش فيه.

هناك نوعان من جلد الذات :

النوع الأول من جلد الذات هو النوع المادي.

أن يتعمد الشخص الإيذاء الجسدي لنفسه عقابا لها عما اقترفت من أخطاء.

أو أن يكون الشخص مستمتعا بالإيذاء الجسدي لنفسه و هذا ما يسمى ب ” fetishism”.

و كلا الأمرين يندرجان تحت بند جلد الذات المادي.

و هو عرض مرضي بلا شك.

من وجهة نظري أن النوع الآخر و هو جلد الذات المعنوي لا يقل خطورة عن النوع الأول.

بل هو تمرس لإيذاء النفس، تلك الروح التي منحها لك الله، تعذبها بتحميلها ما لا تطيق.

لن أتطرق هنا للنوع الأول المادي، فأنا أجد النوع الثاني المعنوي أشد إيذاء.

و هذا المقال ليس مقالا بحثيا، يتناول الأسباب و النتائج و العلاج.

بل هو مجرد تناول لتلك الآلام التي نمر بها يوميا دون أن ندري، من وجهة نظر شخصية.

هل نحن نعلم ما هي النفس؟ ما هي الروح؟

علماء الدين و الفلاسفة و غيرهم من المعنيين بمثل هذا النوع من النقاشات، لم يجتمعوا ابدا على تعريف واضح و صريح لذلك.

لكن من المؤكد قول الله تعالى :

”  وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)” ( سورة الإسراء).

هذا كلام قطعي أننا لا و لن نعرف شيئا عن الروح.

هل لنا الحق في عذابها؟

عادة ما يملك الإنسان حق التصرف فيما يملكه و يخصه.

و هنا الوضع مختلف لو كانت أنفسنا بيدنا لكان لنا الحق في ذلك.

اقرأ أيضا  شروط القبول في تخصص علم النفس بالجامعات 1444، ونسب القبول به

و لكن أنفسنا بيد الله و هي ملك خالص لبارئها، فلا يجوز لنا أن نعذبها.

لكن نحن نعذبها دون أن ندري!

أن يؤذيك شخص ما بكلمة أو تصرف أمر وارد بكل تأكيد.

فنحن لسنا ملائكة تسير على الأرض.

لكن ما أستغربه هو لماذا نؤذي أنفسنا؟

لماذا نهوى ذلك؟

هذا ليس أمرا معمما على جميع البشر، هناك من يقضي حياته كلها أيا كان عمره الذي قدره الله له دون أن يلوم نفسه على اي شيء.

هو عاش و مات هكذا دون أن يحتاج لأن يؤنب ضميره على اي شيء، و ربما كان محظوظا بذلك.

لكن هناك نوع آخر من البشر أكثر حساسية من غيرهم، يمارسون طقوس جلد الذات بكل ما أوتوا من قوة و سبل لذلك.

بل و يبتكرون و يبدعون في إيجاد الثغرات للوم أنفسهم على اي شيء.

يبلون حسنا في الوصول للذرائع حيث يمكنهم تأنيب أنفسهم كل يوم على شيء جديد.

اللاشعور :

قد يحدث ذلك بشكل متكرر في اللاشعور.



أي أنك تمارس جلد الذات دون أن تشعر أو تدري بذلك.

أنت فقط تجد نفسك تؤنب نفسك، أمرا قاسيا فعلا.

إدراكك لذلك في حد ذاته أزمة ليست بالهينة، بل هو وحده عذاب آخر.

أن ترى أنك تجلد ذاتك و تلومها على كل شيء ” سواء كان حدث بسببك أو لم يحدث” و تقف عاجزا أمام ذلك.

عجز مدمر، قد يقف تماما أمام احرازك لأي تقدم في حياتك.

أنت تعرف ما هي المعضلة، و لكنك لا تعرف لها حلا.

عادة ما نسمع ” لكل داء دواء”، لكن هنا انت تعرف الداء و لكن لا تستطيع علاجه او حتى مقاومته.

انه النفق المظلم الذي لا خروج منه، انت فقط تحتاج لنفسك كي تخرج، لا يمكن لأحد مساعدتك الآن.

نفس لوامة :

” لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) ” ” سورة القيامة”

اختلف الفقهاء في معنى كلمة النفس اللوامة و التي ذكرت في القرآن الكريم.

هناك من قال أنها تلوم على الخير و الشر.

و هناك من قال أنها تلوم على ما فات.

و منهم من قال بل هي نفس فاجرة، و غيرهم قال بل مذمومة.

هل جالد ذاته يعد من أصحاب النفس اللوامة؟

الله أعلم!

لنكن اكثر وضوحا نأتي ببعض الأمثلة لجلد الذات :

هل وضعك المادي غير مقبول بالنسبة لك؟

اذا كانت الإجابة بنعم، فذاك مادة خصبة لجلد الذات.

متمرسي جلد الذات: بالطبع انا السبب، لم اجتهد بالقدر الكافي لأصبح من الأثرياء.

ربما ارتضيت بقدر غير كاف من العلم؟

اقرأ أيضا  علاقات مرهقة

ربما كان على أن أكون أكثر إجتهادا!

أو ربما كان على أن أعمل عقلي أكثر من ذلك…

الكثير و الكثير من ” الربمائيات”

لكن أكثر عمقا…..

أصيب ابنك بنزلة برد شديدة، للوهلة الأولى قد يبدو الأمر عاديا.

لكن بالنسبة لجالدي الذات، الامر اكثر تعقيدا، فهو يتحمل جزء كبير من المسؤلية، حينما سمح له بالدخول مباشرة تحت التكييف بعد لعبه الكرة.

أمر أشبه بالهراء!

لكن صدقني انه يحدث….

هل لدى أحد من أبناءك بعض المشاكل في التركيبة الشخصية؟

ربما يكون جينا وراثيا لا ذنب له فيه، الأمر وراثيا بشكل كبير، الوراثة و الجينات تلعب دورا في كل شيء.

ربما هو مثلا كثير التردد، قد يكون وراثيا من جدته.

لا انا من اتحمل ذلك، انا لم اعطه الثقة الكاملة او الشعور بها منذ أن كان صغيرا.

لم أستطع ان أربيه كما كان يجب علي….

سيعيش تعيسا بسبب ذلك و انا سأعيش بعقدة الذنب طيلة حياتي.

حسنا لنجعل الأمور أكثر تعقيدا و إثارة…..

طلب منك أحد زملاءك في العمل أن تقوم له ببعض الأعمال المطلوبة منه بحجة أنه مرهق، متعب أو أي شيء.

أنت تعرف تمام المعرفة أنه كاذب و يتظاهر بذلك لأنه يعرف أنك لن ترده.

إن فعلت ما هو يريد، ستقضي يومك تؤنب نفسك، لم فعلت هذا و لم أكن ابدا مضطرا لفعله.

كم أنا جبان أن أرفض طلب هذا المحتال.



ماذا لو لم تفعل؟

سيغضب زميلك بل و تجده يهاجمك و يلومك على أنانيتك و عدم تقديرك لظروفه.

و أنت ماذا ستفعل؟

تعود مجددا للوم نفسك، ماذا كان سيحدث لو فعلت ما يريد، ربما هو متعبا فعلا.

إنها دائرة مفرغة يملؤها اللوم و الشعور بالذنب.

أمثلة و أمثلة…..

طلب منك صديق مقرب أن تسدي له خدمة ما.

الأمر صعبا عليك فعلا و لا تملك أي آلية لمساعدته في ذلك.

في النهاية اعتذرت له و هو تقبل الأمر.

أنت لن تترك نفسك تمر من هنا أبدا.

من المؤكد انني خذلته، كان علي أن أحاول أكثر و أجتهد حتى أساعده، لقد تخليت عن صديق، واآسفاه.

الآن لنذهب بعيدا…..

مهنتك كطبيب تجعل المحيطين بك من الأقارب و الجيران يلجأون إليك كثيرا.

لا يجدون حرجا في مهاتفتك في اي وقت من اليوم، أنت طبيييييب….

لا يشغلون بالهم أبدا بحالتك النفسية أو المزاجية، لا تنسى أنت طبيييييب.

تناولت بعضا من حبوب الشجاعة و تجرأت و قررت أن تغلق هاتفك يوما و لن تستقبل اي مكالمات، انه يوم لنفسي فقط.

اقرأ أيضا  الخوف من الجديد .. هل لي يارب من خلاص؟

في صباح اليوم التالي، قابلك أحدهم و أخبرك انه حاول الاتصال بك لسؤالك عن أحد أقاربه الذي يعيش خارج البلاد.

و هذا القريب أصابه ألم في ظهره و كان يحتاج مسكنا للآلام، و ود هذا الشهم أن يسألك عن اسم احد المسكنات حتى يخبره به.

ستشعر أنت بألم شديد و تلوم نفسك لأنه من المؤكد أن ذاك الرجل كان في حاجة لي!

لا أعرف لم كل هذه السطحية في التفكير؟

هون عليك يا رجل… كان عليه فقط أن يتناول مسكن و ليس إجراء جراحة حياتية.

و يضرب مجددا… 

ألا نذهب بعيدا أكثر فأكثر…..

هل انت فقط من يلقي بسيجارته من شباك السيارة؟

هل أنت فقط من يترك التكييف في العمل دون أن يطفئه؟

هل أنت فقط من اتسخ حذاءه و بدون قصد اتسخت أرضية المكان بسببك؟

لم عليك أنت فقط أن تترك المكان نظيفا في صالة الچيم بعد الانتهاء؟

أليس عليك أن تبادر للقيام من كرسيك لتجلس تلك السيدة العجوز في الحافلة؟

ألم يكن من الأفضل أن أتحدث مع هذا البائع بشكل أكثر لباقة، حتى بعد أن خدعني فيما باعه؟

لماذا لم أصل لتلك الدرجة العلمية التي وصل لها صديقي القديم، و الذي لطالما تقاسمنا كل شيئا سويا؟

لماذا لم أستطع تكوين تلك الثروة الهائلة التي كونها فلان و ربما كان لدينا نفس المعطيات؟

أليس….. ؟

ألم……. ؟

هل……. ؟

لم……. ؟

لماذا….. ؟

مئات التساؤلات تطرحك أرضا يوميا.

تسقط بك إلى الهاوية.

تذكر صديقي العزيز انت لن تصلح الكون وحدك أبدا.

المدينة الفاضلة…. تكلم عنها أفلاطون لكنه لم يقل لنا أين هي؟

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها :

أعتقد أن هذا الاقتباس من القرآن الكريم قد يريح صدرك تماما.

صديقي العزيز لا تكلف نفسك ما لا تطيق.

الله نفسه لم يكلفنا ما لا نطيق.

الله نفسه لم يكلفنا ما نطيق.

الله جل و علا كلفنا بالوسع.

اي بما هو أيسر علينا مما نطيق.

أحسن الظن بالله، ستجد الأمور أكثر سهولة و يسر.

هذا الكلام لي و لك……..

و أخيرا جلد الذات حساب أم عقاب؟

هل جلد الذات مجرد حساب على ما فعلت؟

أن تقف أمام ما حققت من أمنيات و تعيد حساباتك لتصل إلى نتيجة؟

تصل إلى نقطة معينة تنطلق منها مجددا، لتحقق ما تبقى؟

أم هو عقاب للنفس على ما اقترفت في حقها؟

نقطة تقف عندها و تعود إلى الوراء؟

العيش في دائرة اللوم و الذنب فقط، دون حلول؟

نهاية مفتوحة….

لم أجد إجابة…..


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *