محمد علي باشا ، أسس لمصر الحديثة، الدوافع و النتائج، و النهاية التي لا تليق.

محمد علي باشا ، أسس لمصر الحديثة، الدوافع و النتائج، و النهاية التي لا تليق

محمد علي باشا ، مؤسس مصر الحديثة و الذي حكمها لاكثر من أربعين عاما، منذ عام ١٨٠٥ و حتى عام ١٨٤٨.



ولاه الباب العالي العثماني بعد مطالبات من الشعب المصري و تذكية من الأعيان و الأشراف.

و كان للسيد عمر مكرم دورا كبيرا في ذلك ،سنأتي على ذكره بالتفصيل فيما بعد.

كان أحمد خورشيد باشا واليا على مصر قبل أن يعزل و يأتي محمد علي باشا بعده.

حيث كانت قد قامت الثورات المتتالية ضده مع حدوث بعض الاضطرابات الداخلية انتهت بعزل خورشيد من منصبه.

و هنا كانت بداية مرحلة جديدة في التاريخ المصري الحديث.

و بداية مرحلة جديدة أيضا من العلاقات بين الدولة المصرية و العثمانية.

فلم يمكث محمد علي طويلا مأمورا من السلطان العثماني.

إنما تمرد على ذلك و أراد أن يكون هو وحده صاحب القرار المصري.

قام بالعديد و العديد من الفتوحات على جميع الاتجاهات، وصل بجيوشه إلى جنوب السودان.

و استولى على أرض الحجاز و الشام، ناهيك عن توغله في أوروبا و خوضه حروبا في قلب اليونان.

و كان ينتوي الوصول إلى الفرات للوقوف على ضفافه، بل وصل إلى الأناضول نفسها.

الدوافع :

نحاول في هذا الجزء من المقال ان نستعرض الآراء المختلفة التي قيلت.

في محاولة إيجاد الدوافع وراء ما فعله محمد علي خلال فترة حكمه لمصر.

هناك من برر ذلك برغبته الشديدة في أن يحكم دولة عربية واحدة كبرى.

كما اراد الحفاظ على حقوق دولته الواسعة الحدود من الدولة العثمانية.

و هناك من أكد أيضا أنه كان حسن النوايا و أراد توطيد أركان الدولة العثمانية باعتبارها الخلافة الإسلامية.

و ذلك عن طريق جمع الدول العربية قاطبة تحت رايته و من ثم تحت راية الدولة العثمانية.

أسس محمد علي باشا نهضة مصر الحديثة بلا شك، و ذلك في جميع المجالات.

اهتم بإرسال البعثات لأوروبا، و تشييد المدارس.

كذلك بناء المصانع، الجسور و غيرها من أساسيات بناء الدول الحديثة.

لكن تكون الفكرة في البداية دائما ابدا منبثقة من رغبته الشديدة في انشاء جيش قوي قادر على مواجهة اي خطر.

فحينما شرع في بناء المدارس كانت البداية بالمدارس الخاصة بالعلوم العسكرية، حينما أسس مدرسة للضباط و أخرى للجنود.

حينما بدأ في تشييد المصانع، كانت البداية لمصانع إنتاج الذخيرة و المدافع.

ثم بعد ذلك بدأ في إنتاج مصانع للغزل و النسيج.

و ذلك بهدف تغطية الحاجة من الملابس العسكرية الخاصة بالجنود.

و حينما شرع في بناء مدرسة الطب بايعاذ من كلوت بك كانت نصيحة الاخير له تنطوي على توفير الخدمة الطبية الجيدة للمصابين من الجنود.

كما أن هناك قول آخر يقول بأنه مجرد رجل الباني أتى مصر غازيا و أراد بناء دولة ملكية خاصة له تتوارثها عائلته.

بالطبع كل هذا كان مجرد اقتراحات فسرها كل صاحب رأي بناء على رؤيته الخاصة للأحداث.

و لكن تبقى هناك حقيقة واحدة…..

حقيقة واحدة :

تعددت الأقاويل و ال تبريرات و كذلك الدوافع المستنتجة و لكن لا يستطيع احد ان يجزم الا بشيء واحد هو :

أن محمد على باشا قد أسس لدولة مصرية حديثة ذات جيش قوي منظم يستطيع حمايتها من اي تدخل خارجي او فوضى داخلية.

بل و يستطيع غزو من يريد إذا أراد أن يتوسع حيثما شاء.

أسس لدولة ذات أركان محددة و هيئة إدارية قوية و منظمة.

دولة تستطيع أن تنتج في جميع المجالات.

دولة استطاعت ان تقف وجها لوجه امام دولة أخرى تعتبر من أكبر الدول و أكثرها انتشارا الا و هي الدولة العثمانية، ليس ذلك فحسب بل و تشعرها بالخطر أيضا.

بل و نسبت له و لعائلته دولة عظيمة على مدار قرنا و نصف القرن من الزمان.

فقد اطلق عليها في تلك الفترة ” الدولة العلوية” نسبة إلى محمد علي باشا.

و انتهت تلك الدولة على يد الضباط الأحرار بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢.

بعد عزل و رحيل آخر حكام الدولة العلوية في مصر ” الملك فاروق”.

و هنا، في هذا المقال سنتناول بعض الأحداث التي حدثت في فترة حكم محمد على باشا و نتناول بعض الجوانب من حياته منذ نشأته.

نشأة محمد علي باشا :

ولد محمد علي في بلدة ” قولة” الواقعة في شمال بلاد اليونان، تلك البلدة التابعة للإقليم المقدوني.

كان ذلك في عام ١٧٦٩، و جذور أسرته ألبانية.

و تربى يتيما منذ صغره لوفاة والده، كما توفت أمه و هو في الرابعة عشر من عمره.

تولى رعايته بعد ذلك حاكم البلدة و الذي آثر أن يدخله السلك العسكري.

ألحقه بالجيش الألباني لما رأي فيه من مواصفات تؤهله لذلك.

تزوج من سيدة من أسرة ثرية و هي السيدة أمينة هانم، و هي أم أولاده إبراهيم، إسماعيل و طوسون.

و تزوج من سيدة أخرى و لكن لم ينجب منها و.

كما كان له العديد من الأولاد مما ملكت يمينه، منهم محمد سعيد باشا الذي تولى حكم مصر فيما بعد.



اما عن دخوله مصر فقد كان عن طريق عمله في الجيش الألباني.

حيث أرسل كقائد الكتيبة الألبانية المتجهه لمصر لتخليصها من الحملة الفرنسية.

تلك الحملة التي انتهت بإنسحاب القوات الفرنسية عام ١٨٠١.

وصول محمد علي إلى مصر ثم توليه العرش :

كان المماليك في ذاك الزمن قد لانت شوكتهم، و لما ألم بمصر ما ألم بها جراء الوضع السياسي المتخبط، حاولوا الرجوع ثانية بقوة إلى الساحة السياسية الفاعلة في البلاد.

لكنهم انقسموا إلى فرقتين، إحداهما اعلنت ولاءها للعثمانيين و كانوا تحت قيادة ابراهيم بك الكبير.

بينما الأخرى ترأسها محمد بك الألفي و انضمت تلك تحت راية الإنجليز.

أراد كلا الفريقين العثماني و المملوكي فرض سيطرته التامة على إدارة شئون الأراضي المصرية، و بالتالي نشأ صراعا بينهما.

و كانت هنا بداية ظهور دهاء محمد علي، حيث بدأ من موقعه كقائد للقوات الألبانية في مصر، محاولات الوقيعة بين الأطراف المتناحرة.

كما عمل على تعزيز مكانته بين الأعيان و الأشراف في مصر بل و التودد أيضا لعوام المصريين، و بالفعل استطاع في فترة قصيرة ان يملك قلوب المصريين و ينال حبهم و ثقتهم.

و لما تفاقمت الأمور في مصر على يد حاكمها خورشيد باشا، المعين من قبل السلطان العثماني، نتيجة فرض الضرائب على المصريين.

و كذلك محاولة الباشا طلب المعونة من الباب العالي و أرسلوا له جيش ” الدلاة”.

هذا الجيش الذي اعمل في المصريين السلب و النهب.

كانت النتيجة أن ثار ضده المصريين و اجمعوا الرأي على شخص محمد علي بديلا عنه و نال ذلك الترحيب و التأييد من السيد عمر مكرم.

الذي بدوره خاطب الباب العالي بصفته نقيبا للإشراف بضرورة الانصياع لرأي الشعب المصري.

فما كان من السلطان العثماني إلا أن إنصاع لتلك المطالب و قام بإصدار فرمانا بعزل خورشيد و تولية محمد علي باشا.

و قد كان خورشيد باشا بعث محمد علي و جنوده إلى الصعيد لمطاردة المماليك.

و حينما رجع محمد علي إلى القاهرة أخبره عمر مكرم بذلك الأمر، رفضه في البداية كنوع من الترفع و لكنه وافق في النهاية.

ملحوظة :

” علما بأن محمد علي لم يحفظ الجميل لعمر مكرم فيما بعد.

فبعد ان استتبت له الأمور بعض الشيء، كان قد بدأ في فرض الضرائب على المصريين.

الأمر الذي لم يتحمله المصريون كثيرا، لجأوا ثانية للسيد عمر مكرم.

و بوطنيته المعهودة لم يجد مكرم أمامه الا ان يقف جنبا إلى جنب مع الشعب المصري.

و أبلغ محمد علي بضرورة الكف عن فرض الضرائب بهذا الشكل.

و لم يعجب محمد علي بهذا و استطاع أن يوقع بعمر مكرم و عزله من منصبه و اتهمه بالخيانة و عين السادات نقيبا للاشراف بدلا منه.

و في النهاية نفاه إلى دمياط. ”

و في منتصف عام ١٨٠٥ كانت مصر على مشارف بداية عصر جديد من عصورها بحكم محمد علي باشا.

حدث في عهد محمد علي باشا :

توطيد أركان حكمه و القضاء على المماليك :

محمد علي الآن واليا على مصر و حوله من الخصوم و الأعداء ما يكفيه.

لكن الخطر الأكبر كان ممثلا في المماليك ابراهيم بك الكبير من ناحية و محمد بك الألفي من ناحية أخرى، و الأخير كان أشد خطورة و عداوة له.

و في يوم الاحتفال بوفاء النيل اشتبكت قوات الفريقين، بعد أن قرر الألفي مهاجمة القاهرة.

و سرعان ما بدأت ملامح النصر تلوح بالأفق لصالح محمد علي باشا و بدأت قوات الألفي في التقهقر للصعيد.

ظن محمد علي أن الأمر أوشك على الحسم فطاردهم إلى الصعيد و بعث ب حسين باشا للقضاء عليهم.

و لكن انقلبت الطاولة مجددا و دارت الدوائر و بدأت قوات الألفي تحقق انتصارا كبيرا، مما أجبر قوات حسين باشا على الانسحاب حتى بني سويف.

و في نفس الوقت تحركت قوات ابراهيم بك الكبير من أسيوط و وصلت حتى حدود المنيا.

بينما تحركت قوات محمد بك إلى دمنهور للتحصن هناك بإيعاذ من الانجليز الذين أعدوا العدة لحملة فريزر.

و اشتبكت قوات حسين باشا مع قوات الكبير و استطاعت وقف زحفها نحو القاهرة.

و لكن كان محمد علي محظوظا إلى حد كبير، فقد أتت الرياح بما لا تشتهي سفن المماليك، و توفى محمد بك الألفي.

و هذه لن تكون الواقعة الوحيدة التي يموت فيها قائد قوات الأعداء موتا قدريا بعيدا عن المعركة، مما يساعده على النصر.

فسوف تتكرر مثل تلك الواقعة عدة مرات و كأن القدر يريد له النصر دائما.

و حقق محمد علي باشا نصرا مبينا على المماليك و قضى على شوكتهم تماما.



و كانت النهاية الفعلية للمماليك في مذبحة القلعة و التي ذكرناها بالتفصيل في الحديث عن باب زويلة.

حملة فريزر :

كلفت السلطات البريطانية الفريق اول ” فريزر” بالتقدم بأسطول بحري قوي لدخول مصر من جهة الإسكندرية.

و الزحف نحو القاهرة للتخلص من محمد علي باشا، بمساعدة المماليك.

و كانت المفاجأة بهزيمة المماليك و موت محمد بك الألفي، لكن ذلك لم يثنيهم عن استكمال حملتهم.

و لكنه افقدهم حليفا قويا، حيث قرر اتباع محمد بك الألفي عدم الانضمام للقوات البريطانية حتى لا يتهموا بالخيانة.

على اي حال، تمكنت القوات البريطانية من دخول الإسكندرية بهدوء و دون قتال، حيث سلمها العمدة لهم دون معارك.

ثم اتجهت تلك القوات إلى رشيد و لكنهم فوجئوا ببسالة شعبها و قاتلوهم قتالا نعيفا و لم يستطيعوا دخولها.

كان محمد علي قد رجع من الصعيد بعد انتهاء معارك المماليك فأرسل ” طبوز أوغلي” قائدا لقواته لمواجهة الانجليز.

و استطاع أوغلي ان يلحق بالانجليز هزيمة اجبرتهم على الانسحاب و توقيع معاهدة تقضي بجلاءهم عن مصر و إطلاق سراح أسراهم.

معارك الحجاز :

ناصر الأمير محمد بن سعود، أمير الدرعية، الحركة الوهابية في الحجاز.

استطاع ان يستولى على بعض المناطق  في شبه الجزيرة العربية و منها الطائف و المدينة و مكة المكرمة.

ازعج ذلك الدولة العثمانية كثيرا، فهو تمكن الان من السيطرة على اهم المناطق التي كانت تحت الحكم العثماني.

فالجميع يعرف مدى أهمية و قدسية الحرمين الشريفين لدى المسلمين.

و ذلك يحرج الدولة العثمانية بشكل كبير و خاصة أنها اعتبرت نفسها مقر الخلافة الإسلامية و صاحبة السلطة العليا في البلاد الإسلامية.

فقام السلطان في بداية الأمر بالإستعانة بأمراء الشام و العراق السيطرة على الوضع في الحجاز.

لكن دون جدوى فقد تمكن الأمير محمد بن سعود من احكام السيطرة على تلك المناطق.

فما كان من العثمانيين الا ان طلبوا من محمد علي باشا التوجه إلى هناك لمواجهة مؤسس الدولة السعودية الأولى.

و بالفعل قام محمد علي باشا الطموح بإرسال ابنه طوسون على رأس القوة المتجهه إلى هناك.

و حقق في بداية الأمر تقدما ملحوظا لكن سرعان ما بدأ في التقهقر لما ألم بجيشه من تفشي الأمراض.

فلم يجد بدا من إرسال ابنه ابراهيم لمواصلة الحرب هناك.

و للمرة الثانية يحالفه الحظ و يموت الأمير سعود و يتمكن ابراهيم باشا من تحقيق النصر.

و سلم لهم الأمير عبدالله و اشترطوا عليه للصلح الذهاب إلى الاستانة لتقديم فروض الولاء للسلطان العثماني.

التوجه جنوبا للسودان :

كلما مرت الايام ازدادت قوة محمد علي و قوة جيشه، كما تزداد طموحاته و تطلعاته.

فكان يملك ميولا توسعية كبيرة و أراد أن يسيطر على كل المناطق المجاورة له و تأمين نفسه من جميع الجهات.

و لكن هذه المرة اتجه جنوبا حيث الأراضي الخصبة و منابع نهر النيل.

فبعث بجيش تحت راية ابنه اسماعيل متجها السودان و الذي استطاع ان يصل إلى الخرطوم.

كما ارسل قوة أخرى إلى كردفان تحت قيادة محمد بك الدفتردار.

و كان ابراهيم ابنه أيضا قد توجه إلى هناك و لكنه عاد إلى مصر بعد مرض الم به.

و كان قد بدأ اهل بعض المناطق في التذمر جراء فرض ضرائب باهظة عليهم من قبل قوات جيوش محمد علي.

و هنا قام اسماعيل بتوبيخ الملك نمر و اتهامه بالمسؤولية و الضلوع في إشعال فتن الثورة ضدهم.

و حاول الملك استرضاءه و شرع في القيام بحفل ضخم أثقلهم فيه بالأكل و الشرب.

و على نحو غرة امر نمر جنوده بإشعال النار في الحفل، و مات اسماعيل مخنوقا من الدخان.

و لما علم بذلك الدفتردار اسرع إلى هناك لينتقم لاسماعيل و استقرت الأمور بعدها لمحمد علي باشا في السودان.

حروب اليونان :

كانت المورة من أكثر المدن التي عكرت صفو السلطان العثماني نتيجة ثورات أهلها المتكررة و عدم استقرار الأمور هناك.

و كان الأساس الديني هو المفجر لتلك الثورات، و كان شعارها ” الإيمان، الحرية، الوطن”.

استعان السلطان محمود الثاني بمحمد علي باشا لاخماد الثورات هناك و السيطرة على تلك المدينة.

فأرسل حسين باشا إلى جزيرة كريت، و استطاع السيطرة عليها و منح السلطان محمد علي باشا ولايتها فيما بعد.

و ارسل ابراهيم باشا إلى مدينة المورة الثائرة، و حقق هناك نصرا رائعا.

حتى أنه استطاع الوصول إلى مدينة نابولي معقل الثورات.

و لكن تحالفت أوروبا من أجل وقف الزحف العلوي إليهم و تدخلت كل من فرنسا و روسيا و بريطانيا بقوة.

و قاموا بإرسال قواتهم لمواجهة القوات المصرية و العثمانية.

و تم تدمير كلا من الأسطول المصري و العثماني في عام ١٨٢٧.

و هنا بدأ محمد علي يعيد حساباته من جديد.

و رأى محمد علي انه اقحم نفسه فيما ليس له من وراءه منفعة.

فقرر عدم التدخل مرة أخرى في الشأن اليوناني و ان يترك ذلك الأمر للسلطان العثماني.

حروب الشام :

دائما و أبدا كانت السيطرة على بلاد الشام احد تطلعات محمد علي باشا.

حتى أنه طلب بشكل مباشر من الوالي العثماني السلطان محمود اعطاءه ولاية بلاد الشام و ضمها إلى الأراضي المصرية.

كان ذلك خلال حرب الحجاز و لكن وعده بها السلطان و لم يفي بوعده بعد انتهاء الحرب.

و لكنها كانت و لازالت تشغل حيزا كبيرا من تفكير محمد علي باشا.

فبدأ بتوطيد علاقته مع والي عكا و أمير لبنان.

و بالفعل ساعد كلا منهما و توسط لهما لدى السطان محمود الثاني.

بدأ يعد عدته تقريبا منذ عام ١٨٢٩ و حاول أن يجد الحجة لذلك.

فطلب من والي عكا ان يرد له ما أخذ من أموال و ان يبعث له بالفلاحين المصريين الفارين من الضرائب.

فماطله والي عكا فوجد في ذلك سببا ظاهريا للتوجه لبلاد الشام.



و في عام ١٨٣١ بعث ابنه إبراهيم بجيش متجها إلى الشام و استطاع السيطرة على فلسطين و لبنان بما فيهم عكا.

و التي أسر واليها و أرسله الى مصر.

اتجه بعد ذلك إلى دمشق و سيطر عليها.

و بدأ العثمانيون في الشعور بالخطر الكبير الذي يحدق بهم، و تم الإعلان عن فرمان يقضي بخيانة محمد علي باشا و ابنه ابراهيم.

و التقت جيوش ال فرقتين في حلب، و واصل ابراهيم باشا انتصراته.

و تقدم جيش ابراهيم اكثر فأكثر حتى وصل إلى قونية من بلاد الأناضول.

و الآن أصبح الطريق ممهدا نحو الاستانة نفسها.

الطريق إلى الأستانة او التوريث :

في ذلك الوقت استشعرت الدول الاوروبية الكبرى خطورة محمد علي، الذي أراد أن يجعل من جبال طوروس حدا فاصلا بين الدولتين المصرية و العثمانية.

و تدخلت روسيا عسكريا بينما حاولت فرنسا و بريطانيا سياسيا مع محمد علي لإثناءه عن مخططه.

و عرضا أيضا التدخل العسكري على السلطان العثماني شريطة سحب روسيا لقواتها، الأمر الذي قوبل بالرفض التام من الأخيرة.

و في النهاية و بعد الضغوط الكبيرة من قبل فرنسا و بريطانيا، قام الطرفين بتوقيع معاهدة ” كوتاهيه” ١٨٣٣.

و اقتضت المعاهدة بخروج ابراهيم باشا من الأناضول و توليته على جده.

و كان الفوز الأكبر بتولية محمد علي على الشام كاملة.

و بذلك تكون قد انتهت المرحلة الأولى من الصراع المصري ( متمثلا في محمد علي باشا) العثماني المباشر.

المرحلة الثانية من الصراع :

الجميع كان يعرف ان هذا الهدوء كان مؤقتا فكلا الطرفين أجبر على توقيع المعاهدة.

و سرعان ما احتدم الموقف ثانية بحلول عام ١٨٣٩، و كانت معركة ” نسيب”.

و فيها كاد الجيش العثماني يفنى عن بكرة أبيه، أسر منه فيها ما يقرب من ١٥ الف جندي.

و توفى السلطان محمود الثاني قبل أن يأتيه الخبر و تولى ابنه عبدالمجيد و هو ابن ١٨ عاما.

و للمرة الثالثة يلعب الحظ لصالح محمد علية، و يتوفى خصما له تاركا له الساحة يفعل فيها كيفما يشاء.

إلى جانب تأييدا له من فرنسا.

و لكن على عكس فرنسا كان اتجاه روسيا و النمسا و بريطانيا و بروسيا.

الذين عقدوا اجتماعا في لندن بتقديم مهلة لمحمد علي باشا للتوقف عن التعمق اكثر من ذلك داخل حدود الدولة العثمانية.

و كانت المهلة ٢٠ يوما، عرضوا عليه فيها حكما وراثيا لمصر و حكما مدى حياته ” شخصه فقط و ليس عائلته” على عكة.

ان مرت العشر الأولى دون رد يسحب عرض عكا و ان مرت العشر الأخيرة يسحب عرض مصر.

و بالفعل لم يكترث محمد علي لتلك المهلة و لا العرض المقدم له.

و كادت الأمور أن تسير في طريق غير معلوم العواقب لولا تدخل النمسا و ألمانيا لاقناع روسيا و بريطانيا بالتراجع عن الحل العسكري.

و انتهى الأمر في النهاية بمنح محمد علي باشا حكم مصر حكما وراثيا.

اذن استقرت الأمور بشكل كبير الآن و بدأ محمد علي باشا في تأسيس دولته كما خطط لها.

النتائج :

تكوين جيش قوي نظامي :

في أول قدوم محمد علي إلى مصر، قدم إليها كقائد لقوات الجيش الالباني لطرد الحملة الفرنسية من مصر.

و بعد توليه الحكم استمر ذلك الوضع قائما، أن كان قوام الجيش في الأساس من الألبان مطعما بالشراكسة و الأكراد.

و لكنه كان جيشا اشبه بالمرتزقة، جيش غير نظامي و لم يكن يضمن ولاءهم له.

و بعد دخوله السودان حاول محمد علي تغيير القوام الرئيسي لجيشه و استبداله بالجنود السودانيين، لكن كثر تذمرهم.

فلم يجد بدا من الاعتماد على المصريين و تجنيدهم الإجباري، فيما عرف وقتها بالجهادية.

بالطبع لم يتقبل المصريون ذلك بسهولة، حتى أن منهم من كان يحاول بأي طريقة عدم الانضمام.

و لكن علي اي حال، استسلم المصريون للأمر في النهاية، خاصة بعد أن بدأ الجيش في إثبات ذاته على الأرض و كثرة الفتوحات.

مما أشعر المصريين بأنهم هم حماة بلادهم و ان هم من يدافعون عن أرضهم و ليس الأمر بيد غيرهم.

و استمر الوضع إلى يومنا هذا.

التدريب :

و كانت خطة التدريب وقتها من محمد علي خطة متكاملة الأركان.

فبدأ بإنشاء مدرسة حربية للضباط في أسوان و تولى الضابط الفرنسي جوزيف سيف ذلك.

كما أسس أيضا مدرسة للجنود في بني عدي.

و بحلول عام ١٨٢٤ كان قوام الجيش المصري عبارة عن ٦ كتائب نظامية.

و وصل عدد الجنود في عام ١٨٣٩ إلى ٢٣٦ الف جندي.

و من أجل أن يكون الوضع اكثر تنظيما و ذو ضوابط معروفة و محددة أنشأ ديوانا للجهادية لإدارة الأمور المتعلقة بالجيش.

كما أن له الفضل في إنشاء ترسانة بحرية في الإسكندرية عام ١٨٢٩.

و التي وصل حجم إنتاجها من السفن الحربية إلى ٢٩ سفينة عام ١٨٣٧.

و بدأ محمد علي في التوسع اكثر فأكثر و شرع في إنشاء مدارس متخصصة أخرى مثل :

مدرسة البيادة في الخانكة، السواري بالجيزة، مدرسة أركان الحرب، مدرسة للموسيقى العسكرية.

كما أسس معسكرا للتدريب في رأس التين بالإسكندرية خاص بالاسطول البحري.

التعليم من أساسيات نهضة الأمم :

لم تغب أبدا تلك الفترة عن بال محمد علي باشا، فقد آمن انه بحاجة إلى مجتمع متعلم ليصل ببلاده إلى مبتغاه.

فشرع في إرسال البعثات التعليمية إلى خارج مصر، و كانت البداية في ايطاليا عام ١٨١٣.

حيث اوفد إلى هناك ٢٨ طالبا لتعلم علوم الهندسة و الطباعة و الفنون العسكرية.

و كانت البعثة الثانية في ١٨٢٦ و قوامها ٤٤ طالبا.

ثم بدأ في تنويع مصادر التعليم و أرسل بعثات أخرى إلى فرنسا و إنجلترا.

و في عام ١٨٤٤ كانت البعثة الأكبر و وصل عدد المبعوثين إلى ٨٣ طالبا.

إجمالا، أرسل محمد علي تسع بعثات بإجمالي عدد طلاب وصل إلى ٣١٩ طالبا.

ناهيك عن اهتمامه أيضا باستكشاف منافع النيل و التي ارسل في سبيلها ثلاث بعثات في الفترة ما بين ١٨٣٩ حتى ١٨٤١.

المدارس العليا :

كما أسس العديد من المدارس العليا و كانت البداية بالهندسة عام ١٨١٦، كما أنشأ مدرسة الطب عام ١٨٢٨.

و مدرسة المعادن عام ١٨٣٤ بمصر القديمة، مدرسة الألسن عام ١٨٣٦ بالأزبكية.

كذلك مدرسة الزراعة بنبروه في محافظة الدقهلية، مدرسة المحاسبة عام ١٨٣٧ بالسيدة زينب.

كما أنشأ مدرسة لدراسة العلوم البيطرية في مدينة رشيد، و المهندسخانة لدراسة الهندسة العسكرية.

و اتهم أيضا بالتعليم الابتدائي و أنشأ خمسين مدرسة موزعة على الإقليم المصري، بواقع أربعة في القاهرة و اثنتين في الإسكندرية.

و توزع باقي المدارس على كافة أنحاء القطر المصري.

على أن يكون عدد الطلاب في مدارس القاهرة و الإسكندرية ٢٠٠ طالب لكل مدرسة.

اما مدارس محافظات الأقاليم فكان نصيبها مئة طالب لكل مدرسة.

القوة الصناعية و الزراعية:

رأى محمد علي باشا أنه يجب عليه أن يحقق اكتفاء ذاتيا في بعض الصناعات.

كان على رأس تلك الصناعات، صناعة الغزل و النسيج، فبدأ ببناء مصانع خاصة بهذا المجال.

و أنشأ مصانع أخرى الحرير، الأصواف و الكتان.

كما أنشأ أيضا مصانع أخرى للزيوت و الصابون، دباغة الجلود و تصنيع الزجاج.

و بالطبع مصر بلد زراعية بسبب وجود نهر النيل العظيم و خصوبة التربة على ضفتيه.

فأخذ في بناء العديد من الجسور و القناطر.

كما اهتم أيضا بزراعة أشجار الزيتون مع الاستفادة من الزيوت المستخلصة منها.

كذلك أشجار التوت لتصنيع الحرير.

و ادخل في مصر زراعة انواع القطن الصالحة لتصنيع الاقمشة، حيث كان النوع المزروع في مصر صالحا فقط للتنجيد.

جهاز إداري منظم للقطر المصري :

تألف القطر المصري في عهد محمد علي من خمسة محافظات و سبع مديريات هي :



محافظة ” القاهرة، الإسكندرية، رشيد، دمياط و السويس”.

اما عن المديريات فكانت:

مديرية تضم كلا من : البحيرة، القليوبية و الجيزة.

مديرية المنوفية و الغربية.

مديرية الدقهلية.

مديرية الشرقية.

مديرية بني سويف، الفيوم و المنيا.

مديرية تمتد من جنوب المنيا حتى شمال قنا.

و الأخيرة تمتد من قنا حتى وادي حلفا.

كما أنشأ دفترخانة لحفظ الوثائق المصرية و دارا للآثار و فنارة الإسكندرية كدليل للسفن.

منع تمام خروج الآثار من مصر

أسس بعض المدن الجديدة مثل الخرطوم و كسلا.

نهاية لا تليق لشخص مثل محمد علي باشا :

كانت بداية النهاية هي حروب الشام، حيث تعرض فيها محمد علي باشا إلى ضغوط كبيرة أثناء تلك الحروب.

و قيل انه قد أصيب بنوع من جنون الارتياب، فبدأ يشكك فيمن حوله، الجميع أعداء إلى أن يثبت العكس.

و لكن ابنه ابراهيم باشا كان وضعا مختلفا فهو امين سره و ذراعه اليمنى.

التي لطالما بطش بها هنا و هناك و أدب بها أعداءه.

فكانت الطامة الكبرى مرض ابنه ابراهيم باشا بالسل، فزاده ذلك أحزانا على أحزانه.

و ما زاد الطين بلة كان تراكم الديون بشكل كبير جدا على خزانة الدولة، و غضب غضبا شديدا لذلك.

حتى أن وزير ماليته لم يستطع أن يبلغه هو بذلك، فكانت احد بناته المقربات هي من أبلغه بذلك، بمشورة من إبراهيم باشا.

لكن لم يشفع ذلك عند محمد علي باشا فكان رد فعله قويا جدا بمجرد معرفته لذلك الأمر.

و بحاول عام ١٨٤٨ أصيب محمد علي باشا بالخرف بشكل تام و أصبح فاقدا للقدرة تماما على إدارة شئون البلاد.

فتم عزله من منصبه و تم تولية إبراهيم باشا لإدارة البلاد، لم يدم ذلك طويلا، فلم يستمر ابراهيم باشا الا ستة أشهر حيث وافته المنية بسبب إصابته بالسل.

و لم يجروء احد على إبلاغ محمد علي باشا بهذا الخبر.

و تولى من بعده عباس حلمي ابن طوسون و الذي بدا جليا للجميع انه لم يعرف لمحمد علي باشا قدره.

فقد كان دائما لا يرى في رأي جده أو عمه ابراهيم رأيا صائبا.

وفاة محمد علي باشا :

و توفى محمد علي باشا في قصر رأس التين بالإسكندرية و تم نقل جثمانه للقاهرة ليدفن في قلعته.

و مما يدل على إنكار عباس حلمي لدور جده على مدار اكثر من أربعين سنة، ضعف الحضور في جنازته.

فقد اقتصر توجيه الدعوات لبعض سفراء الدول و كبار رجال الدولة.

فلا يمكن وصف تلك الجنازة لرجل عظيم مثل محمد علي باشا بالجنازة المهيبة.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *