القضاء و القدر .. الإنسان مسير ام مخير .. فلسفة الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه

القضاء و القدر  .. الإيمان بهما هو ثابت من ثوابت الإيمان في الإسلام، لا ريب في ذلك. و لطالما كان الحديث عن القضاء و القدر مثار جدل كبير بين العلماء. منهم من قال بأنهما يحملان نفس المعنى و منهم من قال باختلافهما و ان كان الأرجح هو قربهما الشديد في المعنى. قضية أخرى اختلف فيها العلماء و تجادلوا فيها جدلا واسعا، الإنسان مسير ام مخير.

كان للشيخ الشعراوي رأيا جميلا في تلك القضايا، و بالطبع هو رأي يحترم، فلطالما افادنا الشعراوي رحمه الله من علمه و حسم قضايا جدلية كثيرة. فللشعراوي اسلوب ذو طابع خاص في إيصال المعلومة للمتلقي بسهولة و يسر و اسلوب سهل جدا أن يصل لقلب من يستمع له. إن شاء الله نحسبه في ميزان حسناته.

إليك يا عزيزي القاريء نص ما قاله الشيخ الشعراوي رحمه الله في تلك القضية.

فلسفة الشعراوي عن القضاء و القدر :

 

بسم الله الرحمن الرحيم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا.

و اصلي و اسلم على سيدنا رسول الله الذي جعل من أركان الإسلام أن نؤمن بقضاء الله و قدره خيره و شره، و بعد….

فهذا الموضوع موضوع دقيق حتى على العلماء الذين عالجوه.

و لذلك نجد الجدل حوله في كل عصر من العصور بعد عصر الصحابة.

و الحق أن هذا الموضوع يجب أن يسبق بحثه تقديما بسيطا للإنسان الذي نود أن نحكم عليه انه مسير بقضاء و قد ام مخير.

لأن الحكم على الشيء فارق عن تصوره، فلابد أن نتصور اولا ذلك الإنسان الذي نريد أن نحكم عليه.

القضاء و القدر – الإنسان مسير ام مخير:

و حين تنشأ مشكلة من المشكلات مثلا; هل الإنسان مسير ام مخير تلك مشكلة.

و المشكلة لا تنشأ الا اذا وجدت ظواهر تؤيد جهة و ظواهر تؤيد جهة أخرى.

فمثلا إذا قال انسان انا لا استطيع ان احكم على فلان أهو كريم ام بخيل؟

لا شك أنه لو رأى كل تصرفات فلان كرما ما نشأت فكرة ام هو بخيل.

و لو كانت كل تصرفاته بخلا ما نشأت فكرة ام هو كريم.

و على هذا ينشأ تقييم للفعل.

الفعل، فعل يقع في و فعل يقع على و فعل يقع مني.

فمنطقة فعل يقع في كعمل اجهزتي كل ذلك لا اختيار لي فيه، انا مسخر انا مسير انا مجبر.

و من رحمة الله إن اكون كذلك.

إذن فكل فعل يقع في الإنسان مسير فيه، و الفعل الذي يقع على الإنسان من خارجه أيضا مسير فيه لا اختيار له فيه.

و لذلك كان هذا الفعل ليس مناط تكليف و ليس محل مسؤولية لأن لا اختيار للإنسان فيه.

فالإنسان يمرض.. الإنسان يخفق قلبه.. الإنسان يصفر لونه.. الإنسان يتعطل جهاز من أجهزته،

كل ذلك لا دخل للإنسان فيه لانه فعل يقع فيه بفاعل آخر.

كذلك الفعل يقع عليه من خارج أيضا لا اختيار له فيه، ذلك أيضا كل التسيير.

إذن فالفعل الذي يقع في و الفعل الذي يقع علي تعتبر هي منطقة التسيير.

أما الفعل الذي يقع مني بمعنى أن أوجه ارادتي إليه، فعل أفعله أو لا أفعله ثم يرجح فكري الفعل أو اللافعل، تلك هي منطقة الاختيار.

فالذي يقول الإنسان مجبر على إطلاقه يكون قد أخطأ في معرفة تكوين الإنسان.

و الذي يقول الإنسان مسير على إطلاقه يكون قد أخطأ في معرفة تكوين الإنسان.

القضاء و القدر – منطقة تسيير و منطقة تخيير :

إذن فلابد أن يكون في الإنسان منطقة تسيير و منطقة تخيير.

منطقة التخيير هي مناط التكليف دائما، إذن فيجب أن نفهم أن الفعل الذي يقع في أو علي ذلك هو منطقة الجبر.

و من رحمة الله كما قلنا أن نكون مجبرين.

لأننا لا نستطيع أن نعالج أمور حياتنا التي لا نعرف منها شيئا و خصوصا قبل أن يكون لنا عقل أو قبل أن ينضج ذلك العقل.

منطقة الاختيار يحكمها قانون و ذلك القانون خاص بالمتدين و هو الذي يتلقى نظام حركته من منهج السماء،

افعل كذا و لا تفعل كذا.

لو أن الإنسان غير صالح للفعل لما قال له الله افعل و لو أنه غير صالح ل الا يفعل لما قال له الله لا تفعل.

إذن فتوجيه أمر من الله بافعل و توجيه نهي من الله بلا تفعل دليل على :

أن الله قضى و قدر لذلك الإنسان نوعا من الاختيار من منطقة فكره و منطقة عقله و منطقة تكليفه.

فاختيار الإنسان لا يعني أنه خرج من القضاء أو خرج من القدر،

لأن الذي قضى عليه و قدر أن يكون مسخرا في كذا قضى أيضا و قدر أن يكون مخيرا في كذا.

و اي فعل يقع منه لا يكون خارجا من منطقة القضاء و لا من منطقة القدر.

العلماء حينما استقبلوا هذه المسألة استقبلوها بتطرف، هذا التطرف أن احسنا الظن كان يتحيز دائما إلى صفة من صفات الله.

فالذين قالوا بأن الإنسان مجبر ارادوا أن يقولوا ان الله قادر على كل شيء و لا يمكن أن يحدث فعلا الا بأمره.

إذن فالإنسان مجبر ليثبتوا لله كمال القدرة و كمال الهيمنة على تصرفات الإنسان و ان الانسان غير منفلت من قانون الله.

نقول لهم صدقتم و لكنكم حين تقولون ذلك تجورون على صفة أخرى من صفات الله.

اقرأ أيضا  رجيم العشرة الأواخر من رمضان، وبعض النصائح العامة

القدرة و العدل:

و كما تحمستم للقدرة و القيومية لله يجب أن تتحمسوا لصفة الله الأخرى و هي أن الله من صفاته انه عادل.
فلا تجعلوا التحيز لصفة من صفات الله سببا من الأسباب التي تدعوا إلى التحيف على صفة أخرى من صفات الله.

فيجب أن نأخذ صفات الله جميعا جملة واحدة،

بحيث لا تأخذ صفة بحالها و تدع صفة أخرى و الا تعطلت صفة من صفات الله.

و ان كنتم قد تحيزتم لصفة القدرة و اليومية و ان الكون كله في قبضته لا يخفى شئ عنه، نعم، قد صدقتم في هذا.

لكن صفة العدل قد تخليتم عنها.

و صفة العدل تقتضي أن الله لا يعذب على معصية الا اذا كان قد قدر و قضى للعبد اختيار أن يفعل أو لا يفعل.

و حين نجد أنه خلقه مختار في أنه يفعل أو لا يفعل نجده أيضا في صفة القدرة و صفة اليومية.

إذن تلك المنطقة تعطي لكل صفة من صفات الله مجالها فالقدرة باقية و القيومية باقية و العدل أيضا موجود.

اما ان تحكموا الصفة على حساب صفة أخرى فذلك لا يصح ابدا.

و الذين يتحيزوا و قالوا إن الإنسان مخير تحيزوا لصفة العدل في الله و لكنهم لم يتحيزوا لصفة القدرة.

إذن فوجب على هؤلاء أن يتراجعوا و التراجع في طرفي النقيض لابد أن يتواجها معا لا ان يتدابرا.

فإذا كان انسان في طريق و انسان اخر في طريق آخر إذا تدابرا ابتعدا و إذا تقابلا اقتربت.

فتنازل يا صاحب الجبر على موقفك.

و تنازل يا صاحب الخيير عن موقفك حتى تلتقيا في منتصف الطريق، اللقاء يحقق القدرة و القيومية بحالها و يحقق للعدل أيضا بحاله.

و ذلك هو الرأي الوسط الذي يجمع بين حقيقة الإنسان بالنسبة للقضاء و القدر.

و لقد تطرف القائلين بالجبر، الطائفة الذي يسميها علماء الكلام بالطائفية الجبرية، حتى قالت:

إن الإنسان الف و الله حتى لا يعلم بما يفعله الإنسان إلا بعد أن يفعل الإنسان.

القضاء و القدر – إلا لنعلم :

أمثلة على القضاء والقدر - مقال

و استدلوا على ذلك بأشياء ما اوهن الاستدلال بها مثلا “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143) (سورة البقرة)

فكأن الله وجهنا إلى القبلة ليعلم من يتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه، فكأنه لو لم يوجه و لو لم يجدنا لم يعلم.

إذن فعلة التوجه ليعلم فقالوا إذن فعلمه غير موجود لأنه فعل ليعلم، نقول لهم فاتكم شيء يا قوم.

هناك فرق بين علم الخبر و علم الاختبار، علم الخبر يكون من المتكلم و علم الاختبار يكون من المخاطب، كيف هذا؟

مثال توضيحي :

إذا جاء استاذ من الأساتذة و يعلم طلابه بممارسته لهم طيلة العام.

جاء عميد الكلية و قال له ما رأيك في طلابك؟

قال له رأيي أن منهم المجتهدون و منهم … و انا استطيع ان ارفع لك كشفا يحقق لك مستواهم بل و يحقق درجاتهم في علومهم.

فيفعل الأستاذ ذلك و بعد ذلك لا يثق الناظر في مثل ذلك الكلام، بعد ذلك يأتي بعمل امتحان لا يشترك فيه الأستاذ فتأتي النتيجة على وفق ما قدر الأستاذ، لماذا؟

لأن تقدير الأستاذ كان تقديرا دقيقا.

فهو حين أخبر أن هناك اختبار للتلاميذ ، لو أن الاختبار لم يأتي لقال احد التلاميذ مثلا:

أنت حكمت علي بعملي طيلة السنة و لكني اجتهدت في آخر السنة و استحضر مدرسين خصوصيين و تقويت.

فلو اختبرتني لامكن أن تعطي لي درجة فوق الدرجة التي قدرتها لي.

فتقول له أدخل الامتحان و دخل الامتحان، فلما دخل الامتحان جاءت درجته كما قدر الأستاذ له.

لكن حكم عليه بالاختبار لا يستطيع أن يدفع ذلك و يكون الاستاذ قد تحامل عليه، نقول له لا الأستاذ لم يمسك يدك ساعة كتبت الإجابة.

الأستاذ لم يشترك في تقدير الدرجات، إنما تقدير الأستاذ كان صحيحا لأنه استند لأشياء و مقدمات بلا هوى.

فيكون هنا الحكم الثاني حكم اختيار من المكلف حجة عليه، لأن حكم الجبر قد لا يكون حجة بحيث يقول لو امتحنتني بكذا.

ها أنا امتحنتك، إذن فالذي يريد أن يعلمه الله ليس هو علم الجبر و لكن قطع الحجة على المختبر لأنه لو ترك بعلمه سبحانه لما كان هناك حجة على المختبر.

يقول لو كلفتني لفعلت تقول له لا لقد كلفتك بالفعل و لم تفعل.

إذن فالفرق بين علم الجبر و علم الاختيار ;

الإيمان بالقضاء والقدر (01): تعريفه وحكمه

إذا أردنا أن نبحث هذه المسألة نجد أن المسألة حين تطرح سؤلا، تطرحه من شق واحد، هذا الشق الواحد يدل على  أن الحكم موجه.

بمعنى اننا نسمع الشباب الذين أسرفوا على أنفسهم يقولوا إذا كان الله قد كتب علي معصية فلماذا يعذبني عليها؟

كلام جميل و لكننا لم نسمع الطرف المقابل، لم يقل لنا، و إذا كان الله قد كتب علي الطاعة فلماذا يثيبني عليها؟

لماذا ذكرت هذه و لم تذكر هذه؟

انك نسيت ما يعطيك الغلب، يثيبني على الطاعة كلام طيب و قدرها اما ان يعذبني على المعصية هذا هو المستدل لأنها تأتي لك.

اقرأ أيضا  خباب بن الأرت رضي الله عنه

و ان كنت منطقيا، عليك أن تبحث المسألة بحثا عقليا و قلت إذا كان الله قد كتب علي المعصية فلماذا يعذبني و ان كان قد كتب علي الطاعة فلماذا يثيبني.

لم نسمع ذلك من أحد.

اذن فالحق يجب أن يتبع.

فراي الإنسان له زوايا متعددة الخطأ في الحكم، ينشأ من استيعاب الحكم لكل الزوايا.

و الذين يقولون انه مسير استوعبوا كل زواياه و لم يستثنوا منطقة العقل و الفكر.

و الذين قالوا بالعكس لم يستوعبوا ايضا كل زواياه.

قول الخصوم:

اما الذين يقولون ان الاسلام سبب تخلفه الإيمان بالقضاء والقدر نقول لهم متى تخلف الإسلام؟

لو أن التخلف لازمة من لوازم الإسلام لما وجد للإسلام تقدم و ما وجد واقع حضاري و واقع قاد العالم.

و ظل المسلمون هم الدولة الأولى في العالم الف سنة.

انتم و ان حكمتم على الإسلام بفترة من فترات ضعفه، لكنكم نسيتم أن العصور الوسطى التي كانت العصور المظلمة عندكم كانت هي عصور النور عندنا.

إذن التخلف ليس من طبيعة الإسلام.

اما ان يكون التخلف من طبيعة الإسلام فذلك ما ينقضه التاريخ، فقد مرت فترات طويلة قاد الإسلام فيها الدنيا.

اذن فيجب أن نفهم السر في تحملهم على المسلمين في مسألة القضاء و القدر.

أعداء الإسلام واجهوا الإسلام في الحروب فواجههم بالسيوف، فوجدوا قوما يحبون الموت كما يحبون هم الحياة.

لماذا أحبوا الموت؟ لأن لهم إيمان بأن أجلهم يأتيهم سواء كانوا في الحرب أو غير الحرب.

فدخول المعركة لا يعني الموت بدليل أن كان من الابطال في هذه المعارك و مع ذلك ماتوا على فراشهم و سمعت قول خالد بن الوليد

” لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي .. حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء؟” 

الإيمان أتعب أعداء الاسلام:

فايمان المؤمنين بالقضاء والقدر فيما يطرأ عليهم هو الذي اتعب أعداء الإسلام.

و لذلك يريدون أن يزلزلوا عقيدة المسلمين في القضاء والقدر في المنطقة التي يسيطر فيها القضاء و القدر حتى يقول المؤمنون اننا نؤمن بقضاء الله.

انه اذا قدر لنا الله نبقا و إذا قدر الله لنا أن نحضر فعل كذا و كذا.

و ليعلم المؤمنون أن الله لا يتغير من أجل خلقه و لكن الخلق يجب أن يتغير لأجل الله.

و الأمور التي أسند الله فعلها للإنسان في الفعل الاختياري أعطاه الله فيها أسباب الفعل.

فليقدم الأسباب، فحين تنفذ أسبابه فعليه أن يلجأ إلى الله برفع يده و هو المسبب.

خصوم الإسلام و القضاء و القدر :

إذن فمنطقة الإيمان بالقضاء و القدر يحاول خصوم الإسلام أن يزلزلوا هذه العقيدة في نفوس الشباب و ان يتخذوا من انحراف الشباب دليلا على ذلك أو باعثا على ذلك حتى يبرر الشباب انحرافه أن ذلك مقضيا عليه.

اما الآيات التي يستدل بها العلماء في إسناد الهداية مرة إلى الله و مرة يقول ”  الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)” سورة فاطر. 

و يقول في أية أخرى” وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)” سورة الكهف. 

هذه تثبت اختيارا واحدا تثبت جبرا، نقول لهم يا قوم تقبلوا الاسلوبين على أنهما من الله و مادام الاسلوبين من الله فينبغي الا يكون هناك بينهما تناقضا.

” أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)” (سورة النساء) 

هو من عند الله فلابد الا يكون فيه اختلاف.

لكن الباحثون يغفلون شيئا في البحث و هو انفكاك الجهة و معنى انفكاك الجهة أن الآية ترد على جهة و الآية المقابلة التي يقول الخصوم انها متناقضة للاية على الجهة الأخرى.

القضاء و القدر – و ما رميت إذ رميت :

و الدليل على ذلك تجد في أسلوب القرآن لا اية ظاهرها يعادي ظاهر آية أخرى و لكن آية تجد لفظا يعادي آخر مثلا قول الحق تبارك و تعالى و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى.

ما رميت نفت الرمي عن رسول الله و إذ رميت أثبتت الرمي.

لا يمكن أن يكون ذلك الكلام متناقضا الا ان تكون الجهة منفكة.

و يعني ذلك أن جهة النفي غير جهة الإثبات و كيف ذلك؟

قد تأتي لابنك و تجده يلعب و تقول له يا بني ذاكر دروسك، الامتحان اقترب،….

فيذهب لمكتبه فيظل يقلب صفحات الكتاب و تذهب له بعد ساعة لتساله عما ذاكر فلا تجد له حصيلة فتقول له ذاكرت و ما ذاكرت.

ذاكرت الأولى تعني الفعل الظاهري و الثانية المقصود بها الأثر الذي يراد من المذاكرة.

كذلك الحال في الآية الكريمة، فلا طاقة لبشر أن يأخذ حفنة من الحصى و يلقيها فتصيب الجيش كله.

هو اخذ حفنة من الحصى و ألقاها هذا هو الفعل اما أثرها فذلك ليس من عمل محمد.

اقرأ أيضا  إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم

إذن فجهة النفي غير جهة الإثبات.

القضاء و القدر – يهدي من يشاء:




كذلك بالآيات التي نحن بصددها يهدي من يشاء و يضل من يشاء.

يهدي من يشاء حق و لكن إذا كان الله قد بين من شاء هدايته و بين من لم يشأ هدايته.

إذا رأيت آية محملة في القرآن فانظر إلى الآيات المفصلة و بعد ذلك تجد الآية المفصلة تؤيد الآية المجملة.

يهدي من يشاء و يضل من يشاء قدر هذا.

هذا من قدره انه يهدي من يشاء و يضل من يشاء و لكن ترك من يشاء دون تعريف.

انه في أية أخرى قال و الله لا يهدي القوم الكافرين

إذن فالكافرين ليسوا محل هداية فمحل الهداية من أقبل عليك بايمانه بك تعينه على مطلوبه اما الذي كفر بذلك فكيف تعينه على مطلوبه و الله لا يهدي القوم الفاسقين و الله لا يهدي القوم الظالمين.

إذن الهداية التي قال يهدي من يشاء و يضل من يشاء بين الله قيودها.

لا يهدي القوم الظالمين اي يهدي العادلين

لا يهدي الكافرين اي يهدي المؤمنين

لا يهدي الفاسقين اي يهدي الطائعين

إذن فقد بين من شاء فيه الهداية و من شاء فيه الضلال بآيات من القرآن الكريم.

الذي يأخذ الآية يعزلها عن باق الآيات نقول له أن القرآن كله معا.

خذ الآيات التي ترد في سياق واحد و بعد ذلك احكم عليها.

الهداية :

بقي شيء آخر أن نأخذ لفظ الهداية على أي معنى وردت في القرآن.

تجد أمرا عجيبا.

يقول الحق سبحانه و تعالى ” اما ثمود فهديناهم” ثم يقول بعدها ” فاستحبوا العمى على الهدى”

إذن معنى هديناهم هنا… لو أن هديناهم مكنا الهداية في قلوبهم لما جاء فاستحبوا العمى على الهدى.

اذن يجب أن يكون الهداية هنا معنى آخر، معنى يتأتى بعده الاختيار في استحباب العمى على الهدى.

إذن ما معنى الهداية هنا معناها الدلالة و الإرشاد إلى الطريق الحق.

ذلك معنى من معاني الهداية.

القضاء و القدر – لا تهدي & لتهدي :

و بعد ذلك نجد آيات أخرى اقول لرسول الله “انك لا تهدي من تحب” و ” انك لتهدي إلى صراط مستقيم”

نفت الهداية عن رسول الله و أثبتت الهداية عن رسول الله.

كآية و ما رميت إذ رميت طبق الأصل.

فكيف يكون ذلك؟

انك لا تهدي….. نفي أن يكون الرسول هاديا

انك لتهدي…… إثبات لأن الرسول هاد.

إذن لابد من انفكاك الجهة لأنه كلام الله و لا يمكن لكلام الله أن يتعارض ابدا.

كيف؟

إذن لابد ان يكون للهداية معنيان، المعنى الأول مطلق الدلالة على طريق الخير للتمكين من التوصيل للمطلوب.

و الهداية تارة أخرى اي تمكين الهداية من القلب.

فالرسول محمد صلى الله عليه و سلم و كل الرسل لا يملكون أن يعينوا الناس على الهداية بتمكين الهداية من قلوبهم و إنما مهمتهم أن يدلوهم على الطريق.

فإذا قال الله للرسول “انك لا تهدي من أحببت” اي انك لا تملك تمكين الهداية من قلب أحد لأن ذلك عملى انا.

إنما مهمتك انك تهدي و تدل فقط، إذن الهداية وردت في القرآن بمعنيين…..

بمعنى الدلالة المطلقة بصرف النظر عن الحمل على الغير و هداية بمعنى التمكين.

و حين يقول الحق سبحانه و تعالى الذين اهتدوا زادهم هدى، اهتدوا هنا بمعنى سمعوا منهج الله أو دلالته على الخير و الطريق المستقيم.

القضاء و القدر – مثال توضيحي :




لنضرب مثلا و لله المثل الأعلى، انا انسان غريب عن مكان و اريد ان اصل الى بلد من البلاد و جئت في مفترق طرق و وجدت عسكري و سألته و قال هذا الطريق فشكرته فحين اثنيت عليه قال لي و لكن هذا الطريق فيه التواءات و حفر فخذ حذرك أو يقول ساتي معك.

اذن فاستدلال أصحاب الانحراف بالقضاء والقدر على أنهم ملزمون بالأعمال نقول لهم الإعمال صحيح، كل شيء قد كتب ازلا صح و لكن يجب أن بين مكتوب عليك لتنفذه و بين مكتوب عليك لأن الله علم ما تختاره.

و علم الله أزلي واسع فهو لم يعلم ليقهر، لان العلم صفة انكشاف و ليس صفة تأثير و الدليل على ذلك أنك مثلا إذا جاءك انسان ضيف ثم ارسلت خادما ليأتي له بشيء فابطأ الخادم.

ثم تقول للضيف أتدري لماذا أبطأ الخادم؟ لهذا الخادم ولد منحرف إذا رآه ذاهبا لشراء شيء لعب معه الورق و أخذ منه المال و حينئذ يخاف الولد و لا يأتي.

حين قال صاحب البيت للضيف هذا الكلام قدر ما يكون من الولد في الخارج فهل ارسل مع الولد قوة ترغم الولد على أن ينفذ ما قاله صاحب البيت للضيف.،

لا، هو متروك على اختياره.

لكن الرجل قال ذلك بحكم تجربته في الولد و لكن تجربة سابقة قد تكون خاطئة هذه المرة.



بمعنى في هذه المرة بالذات خرج فصدمته سيارة فنقلوه لاسعافه، فذلك خطأ في علم صاحب البيت.

لكن الله لا يخطيء، فكأن الله سبحانه و تعالى علم أزلا ما يختاره عبده و هو يختاره بمحض حريته التي وهبت له من القضاء و القدر.

فكتب فلان عبدي يصنع كذا، فكتب لأنه علم ما فعل و ما يختار و لم يكتب ليقهر.

لأن العلم صفة انكشاف لا صفة تأثير.

و الله أعلى و اعلم

رحم الله الإمام الشعراوي رحمة واسعة و أسكنه فسيح جناته.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *