حدثني صديقي المجنون .. قال و قلت .. سأل و أجبت



في ليلة من ليالي الشتاء الباردة التي إختفى فيها نور القمر، جلست وحيدا في غرفتي الممتلئة بالدخان أحتسي فنجانا من القهوة، إذا بالباب يطرق كعادته في هذا الوقت من كل مساء، فأنا تعودت على زيارة صديقي المجنون كل ليلة.

صديقي المجنون أعرفه منذ زمن بعيد، و الجميل فيه أنه لا يبالي بندائي له ( المجنون ).

في كل مرة نتسامر نتناقش و نتجادل تارة يهزمني المجنون و تارة أهزمه.

ثم أذنت لصديقي المجنون بالدخول.



حدثني صديقي المجنون:

قال: كيف حالك اليوم؟ أتعبتني الليلة الماضية.

قلت: أنا الذي أتعبتك!

مازلت أعاني من الأرق و التفكير.

سأل: و لم كل هذا؟

أجبت: أفكر في تلك الأمور التي تحدثنا عنها كثيرا من قبل.

قال: أنت من صنعها و لا أحد غيرك.

قلت: كعادتك دائما، تلقي باللوم علي.

قال: لأنه لا يلام عليها أحد غيرك.

قلت: بدأت تستفذني ثانية.

ضحك مني ساخرا و قال:

هل تظن أنني هنا لإستفذاذك أم لمساعدتك؟

قلت: أنت لم تساعدني من قبل؛ بل أنت تحطمني دائما.

قال: هذا أيضا تفكير خاطيء يضاف لما أنت عليه من ضلالات.

بدأ الغضب يدب في قلبي و لكني تمالكت و لم أرد.

قال: هل لي اليوم أن أقترب منك أكثر و أسألك عن بعض الأمور؟

أجبت و أنا متخوفا من الموافقة: هل لازال يوجد ما لا تعرفه!

و لكن لا بأس، تفضل.

بدا المجنون قاسيا:

قال: حدثني عن النجاح.

قلت: من أجمل المشاعر، قادر على إرغامك على السعادة، يعطي لك الكثير من الطاقة الإيجابية.

سأل: هل جربته؟

أجبت بصوت مرتعش: صراحة لأ.

سأل: و كيف تعرف معناه إذا؟

أجبت متلجلجا: شاهدت من حولي ينجحون.

قال محتدا: لا، بل نجحت كثيرا من قبل و لكن تريد أن تعيش دائما دور المغلوب على أمره.

و إن لم تكن جربته لم تكن لتعرف معناه، ” من ذاق عرف “.

لكنك مازلت تصر على ضلالك القديم.

ثم إستطرد قائلا: هذه واحدة لي، أعتقد أنني أقنعتك بتفكيرك الخاطيء.

لم أستطع النظر في عينيه و أخذت نفسا عميقا دون أن أرفع رأسي، كان الحوار قاسيا منذ بدايته.

المجنون يضرب مجددا:

سأل: كم مرة أحببت؟ و من؟

أجبت: مرة واحدة، هي من تزوجت.

سأل: كيف؟

أجبت: إنه الحب من أول نظرة يا عزيزي، هل تعرف برج الميزان؟

يترددون كثيرا و من ثم ،فجأة، يأتي القرار بلا هوادة.

سأل: و من قبلها؟

أجبت: مجرد سراب.

سأل: و من بعدها؟

أجبت: لم يحدث أبدا، أنا رجل لا يعرف الخيانة.

ثم سأل: ما أكثر شيء يخيفك؟

أجبت: الجديد، أخشى التغيير، إنه الخوف من الجديد الذي دمر كل شيء.

قال: بالطبع أنت تعرف أن هذا الشعور كاذب كما عودتني.

قلت منفعلا: كف عن إلقائك الإتهامات لي، هل تعلم الغيب ليطمئن قلبك لما هو قادم؟

قال هو بهدوء تام:

ألست أنت من يردد دائما و يتحدث عن حسن الظن بالله.

أجبت: نعم.

قال متعجبا: فلم كل هذا الهلع من المستقبل! كيف تخاف من شيء هو بيده، فالله يملك القدرة المطلقة.

أجبني؛ أليس هذا كلامك؟

عليك أن تعيد حساباتك ثانية يا صديقي، أنت الخاسر الوحيد في تلك المعركة.

لا، آسف؛ لست الخاسر الوحيد، بفعلك هذا يخسر أيضا من حولك.

رق لحالي المجنون:

قال: صراحة أنت غريب الأطوار بعض الشيء، تحاول أن تدمر نفسك قدر المستطاع.

ثم سأل: ماذا تكره في الناس من حولك؟

أجبت: أنا رجل مسالم و أكره العنف، أكره كل تلك السلوكيات السيئة من حولي، أكره العنف، الشر، المكر و الكذب، الأخير أكرهه كثيرا.

لقد أتعبني هذا الشعور كثيرا، لكم شعرت بالحزن كلما رأيت تلك النظرة في عيون هؤلاء.

أنا أريد أن أرى من حولي بشكل آخر، بشكل يسوده الحب و المودة، يعلو فيه الخلق الحسن عن أي شيء و كل شيء.

أشعر و كأن هذا ليس بزماني.

قال متهكما: أنت أفلاطوني النظرة، هل كنت تود أن تعيش في يوتوبيا؟ تملك قدرا كبيرا من السذاجة، الدنيا حولك ليست هكذا و لن تكون أبدا كما تريد، لن ترى تلك الأحلام إلا في الجنة.

قلت: و لم لا؟ هناك من يستحقها.

حتى و إن كانت في الجنة فقط، سأنتظرها.

أحرجني المجنون:

ثم سألني بعد أن أوشك وجهه على الإنفجار: ما أكثر شيء تكرهه في نفسك؟

أجبته بصوت يملأه الحزن: السلبية، أنا دائما رد فعل و لست بفعل.

أري من حولي الكثير الذي يزعجني و أقف أمامه بلا حراك، أمر من أمام ما أحزنني و أغضبني مرور الكرام.

أنظر له و أذهب بعيدا، فقط ألقي عليه التحية من بعيد.

أأكل نفسي و يقتلني الغضب بداخلي، لكن ماذا فعلت؟ لا شيء….

قال متعاطفا بعد ما رق لحالي المجنون: إنه لشيء جميل أن تكون متصارحا مع نفسك، و لكون هون عليك يا رجل، لم كل هذه القسوة على النفس.

كل شيء قابل للتغيير لكن يحتاج الوقت و الإرادة لتصل لما تريد.

أنت متصارح مع نفسك، نعم و لكن لست متصالحا معها بل تقسو عليها و لا تحاول تغيير هذا الواقع.

قلت: جلد الذات يريحني أحيانا، أظن و كأنه نوع من العقاب عندما أواجه نفسي بما لها و ما عليها، أنا أوأدبها بذلك.

قال: أي راحة تلك! أنت تعذبها، نعم تواجهها و لكن لا تقومها، تعذبها و تتركها و شأنها.

هل عملت على ذلك من قبل؟

أجبت: نعم، لكن دون جدوى، كل ما في الأمر يزداد فقداني للثقة في نفسي و تزداد الفجوة بيني و بين ثقتي.

قال: الفشل طريق النجاح، طالما هناك إرادة لذلك.

يوم هاجمني المجنون ثم تعاطف معي:

سألني المجنون: و ما أكثر ما تحبه في نفسك؟

أجبته: اليقين بالله، مقتنع بأنه سيرضيني ربي بأمره.

ضحك بصوت عال قائلا: بالله عليك لا تلقي النكات ليس هذا هو الوقت المناسب.

قلت له منفعلا: ما بالك يا رجل؟ ما كل هذه السخرية؟ أتركني و شأني الآن.

قال و هو متغير الملامح: من أين تأتي بهذا الكلام؟ كيف بشخص حدثني عن الخوف، السلبية و عدم الثقة يحدثني عن ثقته بربه و كم هو مؤمن!

قلت غاضبا: لا يتنافيان أبدا تلك هي شخصيتي و هكذا هو أنا.

أما عن يقيني بالله فهو يقين كما أرى الشمس كل صباح، خلي بيني و بين ربي يا أخي، هلا غيرت الحديث.

شعر بالإنتصار و قال: أوافقك.

أكمل أيها العاقل:

قال: أكمل لي ما تكرهه.

قلت: الطيبة، أكرهها و أحبها.

أحبها مع من يستحقها و هم قليل و أكرهها حينما أرى إستغلال الآخرين من حولي لها.

أتعرف؟ هم يرونك ساذجا، لا بل ضعيفا.

أرأيت كيف وصل بنا الحال؟

ربك يقول ” و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس “، و يقول رسولنا الكريم ” حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس ” و هم يقولون ” ضعيفا “.

هذا يذكرني بالجاهلية و قتما كانوا هم السذج و قتما كان الأقوياء غلاظ القلب يعبدوا هبل و اللات ألم يروا قدرة الله من حولهم.

أعاذنا الله من قسوة القلوب، فلينظروا ماذا فعلت قسوة القلوب فيمن سبقهم، أم على قلوب أقفالها.

الطيبة و الرقة هي الأساس و الأصل في النفس البشرية و ما غيرهم هو إنحراف عن الفطرة.

المعظم من حولك يحاول أن يصل للإستفادة الأكبر منك مستغلا طيبتك و أنت لا حول لك و لا قوة.

الغريب في الأمر أنك مدرك لذلك تماما و تعطيهم ما يريدون، و لا أعرف لماذا و لكنك تذرهم يخوضوا و يلعبوا.

آثر صديقي المجنون الصمت هذه المرة و لم يرد و كأن لسان حاله يتضامن معي, ضاما صوته لصوتي.

ثم قال و كأنه أعجبه الحوار: أكمل.

قلت: الخجل، يمثل لي عائق كبير، أضاع علي الكثير من الفرص، إستغله من حولي أيضا.

قال: ليس بخطأهم هذه المرة بل خطأك.

قلت: لا ألومهم و لا ألومن إلا نفسي.

أجهدت المجنون و أجهدني:

مرت دقيقة من الزمن قبل أن أشعر في وجهه بالأجهاد و التعب ثم سألني سؤلا أكثر جنونا مما يبدو:

هل تحب النساء؟

أجبته: غريب هذا السؤال يا صديقي المجنون! و من منا لا يحبهم.

أنا أقدر الأنوثة بكل تفاصيلها.

قال: أو لم تخبرني من قبل بأنك رجل مخلص لا يخون.

قلت: و مال ذلك و الخيانة!

أنا أرى الجمال و أتحدث عنه، لا أنكره، من منا لا يحب الجمال!

كان أنيس منصور يحب أمه كثيرا و لكنه كان دائم النقد للمرأة، هل ينفي ذلك حبه لأمه؟

فأنا أقدر الجمال و لا ينفي هذا إطلاقا مبدأ الإخلاص.

أنعم الله علينا بنعمة البصر و وهب العين القدرة على رؤية الأشياء و الألوان و التمييز بينهم و أمرنا بغض البصر عما قد يسيئها.

أنا أرى البيضاء و السمراء و الشقراء جميلة بما فيها، كما هي، بروحها و ليس فقط بملامح الوجه بل للقلب ملامح أيضا.

عشقت أم كلثوم و أغانيها و هي لم تكن تمتلك ذلك القدر من الجمال مما يملكه غيرها من النساء.

لا شك أن النساء متعة من متع الدنيا و لكنها فقط الزوجة الصالحة التي تملكك.

ظهر واضحا في تعبيرات وجهه أن كلامي لم يقنعه و لكنه لم يكثر جدالي فقد ناله من الإجهاد ما نالني أنا أيضا.

أنا من عمر المجنون:

إستكمل الحديث طالبا مني أن نذهب للشرفة:

أشعر و كأني قد إختنقت، أريد أن أشم هواء الفجر الذي أوشك على الظهور.

قلت: لا مانع لدي فأنا أيضا أحب هواء الفجر.

قال منهكا: أنا أعرفك منذ فترة طويلة، و لكن أود أن أخبرك شيئا.

قلت: أخبرني.

قال: أنا عمري من عمرك، لكني أشعر بتقدم العمر، هل تشعر أنت أيضا بذلك؟

قلت: نعم، أشعر بأني في أزمة منتصف العمر و ليس بتقدمه فحسب.

كم أتمنى أن يعود شبابي و لكني على يقين بأن هذا لن يحدث.

سأل: هل تظن أنك تخطيت تلك الأزمة؟

أجبت: لا أظن ذلك، فأنا مازلت أعيد حساباتي و أفكر فيما مضى فيما إتخذت من قرارات أضرت و لم تفيد.

لهذا أنا مازلت هنا و أحدثك و لولا أنني لم أتخطاها بعد ما كنت بجانبك إلى الآن.

قال: ما كل هذه الصراحة معي!

قلت: نعرف بعض منذ زمن بعيد و لن أخدعك لولا تلك الأزمة ما كنت معك الآن.

المجنون المستفذ:

قال: سأتجاوز ما قلته سابقا، أود أن أسألك عن شيء، بالحديث عن إعادة الحسابات؛ هل أنت راض عن نفسك؟

قلت: أنظر، أنا نشأت في طبقة متوسطة و كل يوم من عمري كان يمر كنت أزداد إيمانا بأن القادم أفضل بإذن الله.

هذا هو اليقين الذي لطالما حدثتك عنه و إعترضت عليه، فأنا يقيني بأن تتحسن تلك التركيبة التي ربما تتعجب منها.

أعيش حياتي بما فيها من حسنات و سيئات، بما فيها من حلو و مر.

قال: لا تتهرب من السؤال.

أجبني.

هل أنت راض عن نفسك؟

هل أنت راض عما وصلت إليه.

قلت: لا، لا.

هكذا كنت تحب أن تسمع؟ أليس كذلك؟

قال مبتسما فرحا و كأنه شعر بالإنتصار و الإرتياح: ليس الأمر كذلك يا صاحبي، أنا فقط أريد أن أسمع منك أكثر لعلي أساعدك.

أنا أرى السواد تحت عينيك قد جاوز مداه، لم كل هذا السواد؟

أجبته: النوم الهاديء، صديق لا أعرفه، لا أعرف منه إلا أحلامه التي لا تتحقق و كوابيسه التي تطاردني كل ليلة بعد الحديث معك أيها المجنون.

الصراع مع المجنون:

رق لحالي ثانية صديقي المجنون و قال: أعانك الله على شيطانك.

قلت: الشيطان أمره سهل، بمجرد الإستعاذة منه يذهب و لكن هناك من هو أقوى، هل تعرفه؟ إنه النفس.

و كأنه فوجيء بالإجابة و بدا متوترا بعض الشيء، إحمر وجهه و قال و كأنه يريد أن يغير الحوار ثانية:

أدعو الله أن يعينك عليها، هل حدثتني من قبل عن قبلتك الأولى.

أدهشني هذا السؤال، هو ود أن يغير مجرى الحوار و لكن إتضح هذيانه في سؤاله الأخير.

أجبته: مالك و مال شأني الخاص، المرأة و الرجل و الحب قصة لا تخص إلا من يمر بها و يعيشها.

ثم سألني سؤالا آخر و بدا وقتها مضطربا أكثر من ذي قبل:

هل أنت راض بما قسمه الله لك؟

أجبته: بالطبع و الحمد لله.

قال محتدا: بل أنت تتظاهر بذلك.

قلت منفعلا غاضبا: لم أقل لك المجنون من فراغ، كيف تتهمني هذا الإتهام؟

قال: كل ما تحدثت عنه يقول عكس ذلك.

قلت: بالعكس تماما، حديثي معك يثبت رضاي بما قسمه الله لي.

قال متهكما: كيف بالله عليك؟

قلت بثقة: لأنه هو من أبصرني بما داخلي هو من أضاء لي ما فيها و أراني إياه.

هو من جعلني أناقش عيوبي معك حتى أتغلب عليها، هو من بعثك إلي حتى أرى حقيقتك، حتى أتخلص منك أيها المجنون الزائف.



الفجر المجنون:

هاجمنا الفجر دون أن ندري، فقد إشتدت وطأة الحوار أكثر مما تصورنا.

مرت لحظات كثيرة من الصمت و التحديق فيما بيننا.

قطع هذا الصمت صوت العصافير المغردة و كأنها أتت لتفيقنا مما نحن فيه.

فقلت له و أنا أشعر بخفقان قلبي: لاحظت عليك علامات الإرتباك منذ أن سألتك عمن هو أقوى من الشيطان.

رد علي و هو ينهج و يلتقط أنفاسه محاولا التماسك: أنا لا أرتبك إطلاقا.

لست مثلك رجلا خجول.

قلت ثائرا: من أنت ؟

قال بصوت أرعبني و كأنه إعصار: أنا الذي لا يعرف الخوف و يثق بربه و يرضى بنصيبه.

قلت في جنون أكثر: من أنت؟

قال و قد أوشك على الإنهيار: أنا من أكره الشر و أحب النساء.

توسلت إليه: من أنت؟

قال في كبر: رجل يعرف الطيبة و لا يعرف الضعف.

قلت: باللله عليك، من أنت.

رد باكيا: أنا من لا يمل التفكير.

سألته منتحبا: من أنت؟

أجاب بصوت زلزلني و أرجفه: سأوجعك.

قلت: أرحني مهما كان الثمن، من أنت.

قالها ثم إختفى: أنا نفسك و أنا أنت.

تجمدت الدنيا من حولي و إنقطع صوت العصافير.

و إذا بالشمس تذيبني و تذيب الجليد الذي أحاطني.

نظرت من حولي لم أجد شيئا، هرعت إلى غرفتي أبحث عنه.

لم أجد هناك من يحدثني، لم أجد إلا المرآة، نظرت فيها وجدت نفسي متعبا و قلت مستسلما:

إذن أنا أنت و أنا المجنون.

 


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *